الأحد، 24 فبراير 2008

العقل الصاعد والعقل النازل بحث تحليلي لطريقة التفكير الدينية

العقل الصاعد والعقل النازل
بحث تحليلي لطريقة التفكير الدينية
الاتجاه الصعودي
هناك اتجاهان في التفكير العقلي احدهما اسميه الاتجاه الصعودي (من الواقع الى الفكرة) وهو ان يدرس الواقع ليكون فكرة عنه وكلما اعطى الواقع الخارجي مزيدا من التفاصيل قام هذا الاتجاه بتغيير الفكرة وتطويرها حتى تتناسب مع الواقع المكتشف مثلا حينما يلاحظ العقل الصعودي ان هذه القطعة من الحديد تمددت بالحرارة والقطعة الثانية ايضا تمددت بالحرارة وهكذا الثالثة والرابعة والمئة يكوّن فكرة عامة تقول كل حديد يتمدد بالحرارة.
مثال اخر: حينما يجرب عقارا على مريض بالايدز فيجده يشفى منه ويكرر التجربة على خمسين فردا فيجد النتيجة عينها يصل الى فكرة عامة تقول كل عقار "ب" يعالج مرضى الايدز ولكنه حين يلاحظ ان عددا اخر من المرضى لا يستجيبون للعلاج يقوم بتغيير الفكرة فاذا عرف ان الذين استجابوا للعلاج في حدود تجاربه هم ذوو البشرة السوداء لانه جرب العقار في افريقيا مثلا فقام بنقل العقار لبلد آخر وجربه فلم يستجيبوا للعلاج وتبين انهم من اصحاب البشرة البيضاء فسيغير فكرته ويعدلها قائلا:
عقار "ب" يعالج المصابين بمرض الايدز من ذوي البشرة السوداء فقط ولا يعالج نفس المرضى البيض (يمارس التمييز).
وقد يكتشف من خلال الواقع والتجارب ان السبب في عدم فعالية الدواء ليس هو بياض بشرتهم ولكن برودة الجو عندهم مثلا.
وهكذا قد يدله الواقع والتجارب على مزيد من التفاصيل فيغير الفكرة لتكون اكثر دقة وانسجاما مع ما شاهد ولاحظ وهذا الاتجاه في السير معاكس للعقل النزولي الذي يصنع الفكرة اولا ثم يلوي الواقع ويفسره بما يتناسب مع الفكرة وليس مستعدا لتغيير الفكرة لصالح الواقع فاحد الاتجاهين يعالج الفكرة لتنسجم مع الواقع والاخر يعالج الواقع لينسجم مع الفكرة.
الاتجاه النزولي
والاتجاه الاخر هو الاتجاه النزولي فهو يدرس مشكلة ما ويضع لها حلا افتراضيا ثم يطبقه على الواقع وكلما وجد استثناءا او تكذيبا للفرضية من الواقع يقوم بتفسير الواقع بما يتلائم مع الفرضية ومثاله مشكلة الخليقة والكون فكر في كشف هذا السر وحل المعضلة وحيث لم يستطع تخيل الكون واقعا في سلسلة من العلل غير المتناهية اختار طريقا قصيرا واراح نفسه قاطعا هذا التسلسل ليقف عند ( الله ) خالق الكون فلم يتواضع ويعترف بعجزه وجهله باسرار الكون وكيفية النشأة ثم بنى على هذه الفكرة الصفات الثبوتية والسلبية واثبت له العدل ونفي عنه الظلم ولكن عند مصادفة واقع ظالم كالزلزال المدمر والامراض وحالات الاعاقة والطبقية الفاحشة فيموت الفقير جوعا بما يموت الغني به تخمة وبذخا وهكذا سائر الشرور والمصائب يقوم العقل النزولي ( النزول من الفرضية الى الواقع ) بتبرير كل هذه المآسي وغيرها بما يتفق مع الفرضية ( وجود الله وعدالته وكماله وحكمته ).
وعندما يرى وعيد هذا الاله واخباره بتعذيب خلقه الى ما لا نهاية في النار يقوم فورا بتفسير ذلك الظلم الفاحش بما يتوافق مع مبدأ العدل والرحمة.
واذا عجز عن تلفيق وجه من وجوه الحكمة المزعومة اعطى الجواب النمطي الذي يصلح لكل المشكلات فعل ويفعل الله ذلك كله لحكمة لا نعلمها!
يا له من عقل جبار يكتشف الغائب بناء على هرم من الفرضيات ولا يعود قادرا على معرفة المفسدة او المصلحة الكامنة في الحاضر فلا يمكنه ان يفهم لماذا حرم اكل الخنزير ولماذا تجب كل تلك الطقوس المعقدة في الحج ولماذا هدر الثروة الحيوانية بذبحها ودفنها بعد تعفنها بما يضر البيئة ولا يتوفق لمعرفة وجه الحكمة في ان لا تقبل شهادة النساء والتمييز ضدهن في الميراث والحقوق بل ولا يفهم هذا العقل علل الاحكام في الاعم الاغلب على الاقل؟.
مثال آخر يستدل العقل النزولي على عصمة الانبياء ـ والائمة عند الامامية ـ
بان النبي لو لم يكن معصوما فانه لا يثق الناس به فلاجل ان يثق الناس به يجب ان يكون معصوما فتثبت العصمة له ولكن هذا العقل حين يواجه الواقع فيجد النبي يسهو في الصلاة ويرتكب الخطأ تلو الاخر في حياته وسيرته يقوم بتبريره او رفض الروايات الصحيحة سندا بحجة منافاتها للدليل العقلي القطعي أي العقل النزولي وفي الوقت الذي يستدل العقل النزولي على العصمة بسلامة وصول احكام الشريعة للناس ووثوقهم بها يصطدم بالواقع المليئ بالتناقضات والاختلافات حتى في الصلاة والصوم على مستوى الروايات الصحيحة وغير الصحيحة سندا وعلى مستوى فتاوى الفقهاء فيتفنن هذا العقل في تبرير هذه الاختلافات والتضاربات ويشغل دارسي العلوم الاسلامية جل عمرهم في كيفية التوفيق بين هذا الكم الهائل من التنافر والاختلاف ليزداد الطين بلة باتساع رقعة الخلاف عند من لم يغلقوا باب الاجتهاد كما هو الشأن عند الشيعة الامامية فاذا كان الناس لا يتبعون الدين لفقدانهم الثقة في النبي والامام اذا لم يكن معصوما واذا كان الهدف من العصمة وصول الحكم الشرعي سالما فكيف يتبع الناس دينهم الان وكيف يثقون بالحكم الشرعي واين هو الوصول السليم للحكم الشرعي مع هذا الحجم الهائل من الاختلاف حتى في كيفية اداء الصلاة وتفاصيل احكامها التي هي عمود الدين ولك ان تسمع لفنون من التعابير التي توفق زورا بين العقل والنقل وهي في الحقيقة تخضع العقل للنقل أي تخدره ومن اوضح العبائر في ذلك ما قد يقال من ( ان النقل مقدم على العقل ) وببساطة يقدم النقل على العقل بحجة ( ان الطعن بالنقل هو طعن بالعقل الذي اثبتنا به صحة النقل) والخلاصة ان العقل النزولي يقع في التناقض بين الفكرة التي يحملها وبين معطيات الواقع على الارض ولكنه يرفض اسم التناقض ويستميت في التأويل والتلفيق ليقنع نفسه انه على صواب غير انه يضل سواء السبيل ويضل غيره فيسير على غير هدى ولا كتاب منير.
استمع معي لنموذج من الاستدلال بالعقل النزولي من شرح التجريد - العلامة الحلي ص 157:
أن الغرض من بعثة الأنبياء عليهم السلام إنما يحصل بالعصمة ، فتجب العصمة تحصيلا للغرض . وبيان ذلك أن المبعوث إليهم لو جوزوا الكذب على الأنبياء والمعصية جوزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك ، وحينئذ لا ينقادون إلى امتثال أوامرهم، وذلك نقض للغرض من البعثة.
الثاني: أن النبي تجب متابعته ، فإذا فعل معصية فإما أن تجب متابعته أو لا والثاني باطل لانتفاء فائدة البعثة ، والأول باطل لأن المعصية لا يجوز فعلها ، وأشار بقوله : " لوجوب متابعته وضدها " إلى هذا الدليل لأنه بالنظر إلى كونه نبيا تجب متابعته وبالنظر إلى كون الفعل معصية لا يجوز اتباعه .
الثالث : أنه إذا فعل معصية وجب الإنكار عليه لعموم وجوب النهي عن المنكر وذلك يستلزم إيذاءه وهو منهي عنه وكلل ذلك محال. انتهى النص المنقول.
وبعد خطوة تكوين فكرة العصمة تأتي الخطوة اللاحقة بتأويل كل ما يدل على المعصية والخطأ والاشتباه وكنموذج واضح في هذا الاتجاه هو كتاب تنزيه الانبياء للشريف المرتضى (م 436هـ = 1044م).
فتجده هناك لا يدع آية واضحة ولا غير واضحة على صدور المعصية والذنب والخطأ من الانبياء الا ويؤولها حتى تستقيم مع فكرة العصمة فنجده يبالغ في تأويل الايات الصريحة في معصية آدم ـ على سبيل المثال ـ استمع له حيث يقول:
تنزيه الأنبياء عليهم السلام - الشريف المرتضى ص 24 :
( مسألة ) فمما تعلقوا به قوله تعالى في قصة آدم ( ع ) : ( وعصى آدم ربه فغوى ) سورة طه الآية ( 121 ). قالوا وهذا تصريح بوقوع المعصية التي لا تكون إلا قبيحة، وأكده بقوله { فغوى }، وهذا تصريح بوقوع المعصية، والغي ضد الرشد. ( الجواب ): يقال لهم أما المعصية فهي مخالفة الأمر، والأمر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب وبالمندوب معا، فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم عليه السلام مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة، ويكون بمواقعتها تاركا نفلا وفضلا وغير فاعل قبيحا، وليس يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا كما يسمى بذلك تارك الواجب. فإن تسمية من خالف ما أمر به سواه كان واجبا أو نفلا بأنه عاص ظاهرة، ولهذا يقولون أمرت فلانا بكذا وكذا من الخير فعصاني وخالفني، وإن لم يكن ما أمره به واجبا، وأما قوله ( فغوى )، فمعناه أنه خاب، لأنا نعلم أنه لو فعل ما ندب إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم. فإذا خالف الأمر ولم يصر إلى ما ندب إليه ، فقد خاب لا محالة ، من حيث أنه لم يصر إلى الثواب الذي كان يستحق بالامتناع ، ولا شبهة في أن لفظ غوى يحتمل الخيبة. قال الشاعر :
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
فإن قيل : كيف يجوز أن يكون ترك الندب معصية ؟ أو ليس هذا يوجب أن توصف الأنبياء ( ع ) بأنهم عصاة في كل حال، وأنهم لا ينفكون من المعصية لأنهم لا يكادون ينفكون من ترك الندب ؟ قلنا: وصف تارك الندب بأنه عاص توسع وتجوز والمجاز لا يقاس عليه ولا يعدى به عن موضعه. ولو قيل إنه حقيقة في فاعل القبيح وتارك الأولى والأفضل، ولم يجز إطلاقه أيضا في الأنبياء ( ع ) إلا مع التقييد لأن استعماله قد كثر في القبائح، فإطلاقه بغير تقييد موهم، لكنا نقول : إن أردت بوصفهم بأنهم عصاة أنهم فعلوا القبايح فلا يجوز ذلك، وإن أردت أنهم تركوا ما لو فعلوه استحقوا الثواب وكان أولى فهم كذلك. فإن قيل : فأي معنى لقوله تعالى : ( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) سورة طه الآية 122. وأي معنى لقوله تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) سورة البقرة الآية 37. فكيف تقبل توبة من لم يذنب ؟ أم كيف يتوب من لم يفعل القبيح ؟ قلنا : أما التوبة في اللغة : الرجوع ، ويستعمل في واحد منا وفي القديم تعالى . والثاني أن التوبة عندنا وعلى أصولنا فغير موجبة لا سقاط العقاب ، وإنما يسقط الله تعالى العقاب عندها تفضلا ، والذي توجبه التوبة وتؤثره هو استحقاق الثواب ، فقبولها على هذا الوجه إنما هو ضمان الثواب عليها . فمعنى قوله تعالى : ( تاب عليه ) أنه قبل توبته وضمن له ثوابها......
الى ان يقول:
فإن قيل : الظاهر من القرآن بخلاف ما ذكرتموه ، لأنه أخبر أن آدم عليه السلام منهي عن أكل الشجرة بقوله : ( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) البقرة الآية 35. وبقوله : ( ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ) الأعراف الآية 22. وهذا يوجب بأنه ( ع ) عصى بأن فعل منهيا عنه ولم يعص بأن ترك مأمورا به . قلنا : أما النهي والأمر معا فليسا يختصان عندنا بصيغة ليس فيها احتمال ولا اشتراك ، وقد يؤمر عندنا بلفظ النهي وينهى بلفظ الأمر ، فإنما يكون النهي نهيا بكراهة المنهي عنه . فإذا قال تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة ، ولم يكره قربها ، لم يكن في الحقيقة ناهيا ، كما أنه تعالى لما قال : ( اعملوا ما شئتم وإذا حللتم فاصطادوا ) ، ولم يرد ذلك ، لم يكن أمرا . فإذا كان قد صح قوله ( ولا تقربا هذه الشجرة ) إرادة لترك التناول ، فيجب أن يكون هذا القول أمرا ، وإنما سماه منهيا عنه ، ويسمى أمره له بأنه نهي من حيث كان فيه معنى النهي ، لأن النهي ترغيبا في الامتناع من الفعل ، وتزهيدا في الفعل نفسه . ولما كان الأمر ترغيبا في الفعل المأمور به وتزهيدا في تركه ، جاز أن يسمى نهيا . وقد يتداخل هذان الوصفان في الشاهد فيقول أحدنا قد أمرت فلانا بأن لا يلقى الأمير ، وإنما يريد أنه نهاه عن لقائه ، ويقول نهيتك عن هجر زيد وإنما معناه أمرتك بمواصلته ، فإن قيل ألا جعلتم النهي منقسما إلى منهي قبيح ومنهي غير قبيح ، بل يكون تركه أفضل من فعله ، كما جعلتم الأمر منقسما إلى واجب وغير واجب . قلنا الفرق بين الأمرين ظاهر ، لأن انقسام المأمور به في الشاهد إلى واجب وغير واجب غير مدفوع ، ولا خاف ، وليس يمكن أحد أن يدفع أن في الأفعال الحسنة التي يستحق بها المدح والثواب ما له صفة الوجوب ، وفيها ما لا يكون كذلك . فإذا كان الواجب مشاركا للندب في تناول الإرادة له واستحقاق الثواب والمدح به ، فليس يفارقه إلا بكراهة الترك . لأن الواجب تركه مكروه والنفل ليس كذلك . فلو جعلنا الكراهة تتعلق بالقبيح وغير القبيح من الحكيم تعالى ، وكذلك النهي . كما جعلنا الأمر منه يتعلق بالواجب وغير الواجب ، لارتفع الفرق بين الواجب والندب مع ثبوت الفصل بينهما في العقول ، فإن قيل : فما معنى حكايته تعالى عنهما قولهما : ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) وقوله تعالى : ( فتكونا من الظالمين ) . قلنا : معناه أنا نقصنا أنفسنا وبخسناها ما كنا نستحقه من الثواب بفعل ما أريد منا من الطاعة ، وحرمناها الفايدة الجليلة من التعظيم من ذلك الثواب ، وإن لم يكن مستحقا قبل أن يفعل الطاعة التي يستحق بها ، فهو في حكم المستحق ، فيجوز أن يوصف بذلك من فوت نفسه بأنه ظالم لها ، كما يوصف من فوت نفسه المنافع المستحقة . وهذا معنى قوله تعالى : ( فتكونا من الظالمين ) . فإن قيل فإذا لم تقع من آدم عليه السلام على قولكم معصية ، فلم أخرج من الجنة على سبيل العقوبة وسلب لباسه على هذا الوجه ؟ ولولا أن الاخراج من الجنة وسلب اللباس على سبيل الجزاء على الذنب ، كما قال الله تعالى : ( فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما ) الأعراف الآية 20 وقال تعالى في موضع آخر: ( فأخرجهما مما كانا فيه ) البقرة الآية 36؟ . قلنا : نفس الاخراج من الجنة لا يكون عقابا ، لأن سلب اللذات والمنافع ليس بعقوبة ، وإنما العقوبة هي الضرب والألم الواقعان على سبيل الاستخفاف والإهانة . وكذلك نزع اللباس وإبداء السوأة . فلو كانت هذه الأمور مما يجوز أن تكون عقابا ويجوز أن يكون غيره لصرفناها عن باب العقاب إلى غيره ، بدلالة أن العقاب لا يجوز أن يستحقه الأنبياء عليهم السلام . فإذا فعلنا ذلك فيما يجوز أن يكون واقعا على سبيل العقوبة ، فهو أولى فيما لا يجوز أن يكون كذلك ، فإن قيل فما وجه ذلك إن لم تكن عقوبة ؟ . قلنا : لا يمتنع إن يكون الله تعالى علم أن المصلحة تقتضي تبقية آدم عليه السلام في الجنة وتكليفه فيها متى لم يتناول من الشجرة ، فمتى تناول منها تغيرت الحال في المصلحة وصار إخراجه عنها وتكليفه في دار غيرها هو المصلحة . وكذلك القول في سلب اللباس حتى يكون نزعه بعد التناول من الشجرة هو المصلحة كما كانت المصلحة في تبقيته قبل ذلك ، وإنما وصف إبليس بأنه مخرج لهما من الجنة من حيث وسوس إليهما وزين عندهما الفعل الذي يكون عنده الاخراج ، وإن لم يكن على سبيل الجزاء عليه لكنه يتعلق به تعلق الشرط في مصلحته ، وكذلك وصف بأنه مبدئ لسوأتهما من حيث أغواهما ، حتى أقدما على ما سبق في علم الله تعالى بأن اللباس معه ينزع عنهما ، ولا بد لمن ذهب إلى أن معصية آدم عليه السلام صغيرة لا يستحق بها العقاب من مثل هذا التأويل ، وكيف يجوز أن يعاقب الله تعالى نبيه بالاخراج من الجنة أو غيره من العقاب ، والعقاب لا بد من أن يكون مقرونا بالاستخفاف والإهانة ، وكيف يكون من تعبدنا الله فيه بنهاية التعظيم والتبجيل مستحقا منا ومنه تعالى الاستخفاف والإهانة : وأي نفس تسكن إلى مستخف بقدره مهان موبخ مبكت ؟ وما يجيز مثل ذلك على الأنبياء ( ع ) إلا من لا يعرف حقوقهم ولا يعلم ما تقضيه منازلهم. انتهى كلامه.
وهكذا نلاحظ عقلا نزوليا صارخا في هذين النموذجين وقس عليهما غيرهما من علماء الاسلام وفقهاء المذاهب المختلفة فهذا العقل يفكر في المشكلة ويضع لها حلا اعلائيا أي انه يفرض فكرة وينتهى الامر وبعد ذلك يقوم بتأويل الايات ونفس هذا العقل يرفض كل الروايات والاخبار التي تتحدث عن الاخطاء والسهو والتناقضات في الاحاديث النبوية لماذا لانه انتهى من صياغة الفكرة فلم يبق الا ان يحوّر كل شيئ بطريقة تتناغم مع تلك الفكرة.
وانما نقلت عن الشيعة لانهم باعتقادي افضل فرقة اسلامية تتعامل مع العقل وتأخذ به ( كنت منهم قبل الهداية الكبرى ) اما الاشاعرة والسلفية فقد طرحوا العقل جانبا واتكلوا على النقل وربما يبرر ذلك بحجة ( ان الطعن بالنقل هو طعن بالعقل الذي اثبتنا به صحة النقل ) كما لاحظت هذه العبارة في احدى مداخلات احد المسلمين في موضوع ( النقل مقدم على العقل ) ويقترب من اسلوب تفكير الاشاعرة والسلفيين فئة (الاخباريين) او (المحدثين) من الشيعة ومن رموز هذا الاتجاه صاحب الحدائق الشيخ يوسف البحراني والذي تقبل فكرة التنكر للعقل حتى على مستوى العقائد الاصلية فقد وافق السيد نعمة الله الجزائري في فكرة عجز العقل عن اثبات وجود الله وبالتالي الايمان بالله يكون بالتقليد او بالقرآن او بالشريعة واقوال النبي لا ادري حقيقة كيف يثبتون ايمانهم بالله استمع له حين ينقل كلام الجزائري ويصححه:
الحدائق الناضرة – الشيخ يوسف البحراني ج 1 ص 126 :

ولم أر من رد ذلك (العقل) وطعن فيه سوى المحدث المدقق السيد نعمة الله الجزائري ( طيب الله مرقده ) في مواضع من مصنفاته : منها كتاب الانوار النعمانية ، وهو كتاب جليل يشهد بسعة دائرته وكثرة اطلاعه على الاخبار وجودة تبحره في العلوم والآثار . حيث قال فيه ونعم ما قال ، فانه الحق الذي لا تعترية غياهب الاشكال :
ان اكثر اصحابنا قد تبعوا جماعة من المخالفين من أهل الرأي والقياس ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول واستدلالاتها ، وطرحوا ما جاءت به الانبياء ( عليهم السلام ) حيث لم يأت على وفق عقولهم ، حتى نقل ان عيسى ( على نبينا وآله وعليه السلام ) لما دعا افلاطون إلى التصديق بما جاء به اجاب بان عيسى رسول إلى ضعفة العقول ، واما انا وامثالي فلسنا نحتاج في المعرفة إلى ارسال الانبياء . والحاصل انهم اعتمدوا في شئ من امورهم الا على العقل ، فتابعهم بعض اصحابنا وان لم يعترفوا بالمتابعة ، فقالوا : انه إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي طرحنا النقلي أو تأولناه بما يرجع إلى العقل . ومن هنا تراهم في مسائل الاصول يذهبون إلى اشياء كثيرة قد قامت الدلائل النقلية على خلافها . لوجود ما تخيلوا انه دليل عقلي ، كقولهم بنفي الاحباط في العمل تعويلا على ما ذكروه في محله من مقدمات لا تفيد ظنا فضلا عن العلم ، وسنذكرها ان شاء الله تعالى في انوار القيامة . مع وجود الدلائل من الكتاب والسنة على ان الاحباط الذي هو الموازنة بين الاعمال واسقاط المتقابلين وابقاء الرجحان حق لا شك فيه ولا ريب يعتريه ، ومثل قولهم : ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يحصل له الاسهاء من الله تعالى في صلاة قط ، تعويلا على ما قالوه من انه لو جاز السهو عليه في الصلاة لجاز عليه في الاحكام ، مع وجود الدلائل الكثيرة من الاحاديث الصحاح والحسان والموثقات والضعفاء والمجاهيل على حصول مثل هذا الاسهاء ، وعلل في تلك الروايات بانه رحمة للامة ، لئلا يعير الناس بعضهم بعضا بالسهو . وسنحقق هذه المسألة في نور من هذا الكتاب ان شاء الله تعالى ، إلى غير ذلك من مسائل الاصول . واما مسائل الفروع فمدارهم على طرح الدلائل النقلية والقول بما أدت إليه الاستحسانات العقلية ، وإذا عملوا بالدلائل النقلية يذكرون أولا الدلائل العقلية ثم يجعلون دليل النقل مؤيدا لها وعاضدا إياها ، فيكون المدار والاصل إنما هو العقل . وهذا منظور فيه ، لانا نسألهم عن معنى الدليل العقلي الذي جعلوه أصلا في الاصولين والفروع ، فنقول : ان اردتم ما كان مقبولا عند عامة العقول ، فلا يثبت ولا يبقى لكم دليل عقلي ، وذلك كما تحققت ان العقول مختلفة في مراتب الادراك وليس لها حد تقف عنده ، فمن ثم ترى كلا من اللاحقين يتكلم على دلائل السابقين وينقضه ويأتي بدلائل اخرى على ما ذهب إليه ، ولذلك لا ترى دليلا واحدا مقبولا عند عامة العقلاء والافاضل وان كان المطلوب متحدا ، فان جماعة من المحققين قد اعترفوا بانه لم يتم دليل من الدلائل على اثبات الواجب . وذلك ان الدلائل التي ذكروها مبنية على ابطال التسلسل ولم يتم برهان على بطلانه ، فإذا لم يتم دليل على هذا المطلب الجليل الذي توجهت إلى الاستدلال عليه كافة الخلائق ، فكيف يتم على غيره مما توجهت إليه آحاد المحققين ؟ وان كان المراد به ما كان مقبولا بزعم المستدل به واعتقاده ، فلا يجوز لنا تكفير الحكماء والزنادقة ولا تفسيق المعتزلة والاشاعرة ولا الطعن على من يذهب إلى مذهب يخالف ما نحن عليه ، وذلك ان أهل كل مذهب استندوا في تقوية ذلك المذهب إلى دلائل كثيرة من العقل ، وكانت مقبولة في عقولهم معلومة لهم ، ولم يعارضها سوى دلائل العقل لاهل القول الآخر أو دلائل النقل ، وكلاهما لا يصلح للمعارضة لما قلتم ، لان دليل النقل يجب تأويله ودليل العقل لهذا الشخص لا يكون حجة على غيره ، لان عنده مثله ويجب عليه العمل بذلك ، مع ان الاصحاب ( رضوان الله عليهم ) ذهبوا إلى تكفير الفلاسفة ومن يحذو حذوهم وتفسيق اكثر طوائف المسلمين ، وما ذاك إلا لانهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل ولم يعدوها من دلائل العقل "
انتهى النقل من الحدائق.
وهكذا فالمعتدلون من المسلمين يركبون حصان الدليل العقلي النزولي واما المغالون في الاعتماد على الشرع والنقل فلا يكترثون بالعقل ايا كان كما يصرخ به النص الذي نقلناه عن الحدائق الناضرة لذلك استبعدت من بحثي هذه الفئة وقارنت بين عقلين صعوي ونزولي.
فاي العقلين أهدى سبيلا؟ وايهما أضل طريقا اترك الحكم لعقلك عزيزي القارئ.
بسام الخيام
13-12-2004م.

هناك تعليقان (2):

Hayat يقول...

مرحبا بسام ..
مبروك ع المدونة الجديدة .. و اهلا بك في عالم التدوين الرحب .. و تمنياتي لك بالتوفيق ..


هنالك مساحه من العقل تمتاز بللاوعي .. و هذه المساحه التي يستغلها الدين و اصحاب الديانات لبرمجة العقول .. و دائما هذه البرمجه تكون منذ ولادة الطفل .. فيكون عقله هش و بسيط .. يتقبل كل شيء .. و عندما يكبر لا يملك خيارا سوى أن يقبل خلاصة الآخرين وتجاربهم دون برهان .. و تصبح بالنسبه له من المسلمات التي لا تقبل الشك و السؤال .. و عندما يكبر و تدخل حقائق إلى مساحة الوعي من عقله و تتعارض مع الافكار الموجوده في مساحة اللاوعي من عقله .. تجده يصر على الافكار التي تربى عليها في اللاوعي ..و يدافع عنها بشراسه .. لانها بالنسبه له الحقيقه ..و هو امتداد لفكير اصحاب الديانات التي تدعي الحقيقه المطلقه وبالتالي ترفض الشك والسؤال..استعانوا بادوات التخويف و الغيبيات في توصيل افكارهم .. لتخترق العقول و حواجز الزمن ..

لذلك نجد المسلم يواجه صعوبه في الإجابه على الأسئله التي تسقط الافكار الدينيه التي تتعارض مع الحقائق .. و عندما لا يستطيع الإجابه .. تجده يتهرب او يسهزأ بعقلك .. لذلك تجدهم يدمنون على الافيون الديني و التفسير الغيبي و الاسطوري بدلا من التفسير العلمي و العقلي .. لانها تلبي النواقص التي بداخلهم ..

بدايه قويه ..
و ننتظر جديدك ..
و شكرا لك على المتابعه و الإشاده..
و بالنسبه للسؤال .. نعم اسمي حياة و احب الحياة ..
تحياتي

بسَام يقول...

شكرا لك حياةعلى اشادتك وتقديرك
لقد اضفتي نورا على مدونتي وانا مسرور بمرورك وتعليقك الذي لا ترجين منه اجرا سوى تنوير العقل
كما اتمنى مزيدا من التشجيع لكتابة الجديد ونشر القديم عله يساهم في ايقاظ العقول من سباتها.
اشهد بانك مناضلة مهمة على طريق التحرير اتمنى لك التوفيق والنجاح.